في غرفة العمليات للمرة الأولى في حياتي

حينما تكون كل المؤشرات أمامك تقودك إلى قرار وحيد لا ثاني له، لكنك تُماطل وتتمهّل ليس لأنك شخص حكيم وإنما أملاً منك في أن تجد بديلاً عن هذا القرار.

كيف حالكم يا أصدقاء؟ لمن يتابع هذه السلسلة المتواضعة فإنّا قد توقفنا في التدوينة السابقة (اضطرابات في الصوت.. واحتمالية تدخّل جراحي!) عند اللحظة التي كان يتوجّب عليّ اتخاذ قرار بشأنها.

ويبدو بكل وضوح من العنوان أيّ قرار اتخذتُ.

نسيتُ في التدوينة السابقة أن أخبركم بأن الطبيب في الزيارة الأخيرة كان قد طلب مني أشعة تصوير حنجري (laryngoscopy) رغم أنه يمتلك منظاراً بالفعل في عيادته إلا أنه قال أن الأشعة ستبيّن الكتلة بشكل أوضح وتعطيني تفاصيل أدق.

حجزتُ موعداً لإجراء الفحص ومن ثم استلمت التقرير وذهبت به للطبيب الذي ما إن رآها حتى أكّد على كلامه السابق أن لا بديل عن إجراء العملية الجراحية وفي أقرب وقت ممكن.

تقرير أشعة التصوير الحنجري
عذراً على بشاعة المنظر.

أخذت التقرير وذهبت إلى طبيب ثان وثالث وجميعهم أقرّوا بوجوب إجراء العملية وأكدوا على “في أقرب وقت ممكن” والسبب أن الكتلة قد تكبر ويزداد حجمها وتسبب مشاكل في التنفس.

قُضي الأمر.

ذهبتُ لإجراء التحاليل اللازمة قبل العملية وانتظرتُ التقرير للذهاب به للطبيب، كان ذلك مساء الإثنين الثالث من أكتوبر وعندما أردنا تحديد موعد العملية قال لي: يمكننا إجراؤها غداً الثلاثاء!

على طول كده؟!

رفضت رفضاً تاماً ليس لشيء وإنما يجب أن أتهيّأ نفسياً وذهنياً. فهذه أول عملية أخضع لها في حياتي! وبدأت تدب في قلبي الشكوك والمخاوف، ووجدتني أبحث على جوجل عن احتمالية وفاتي أثناء العملية، أو وفاتي من التخدير، وماذا عن أخطاء الأطباء أثناء العمليات؟!

لن أنكر أن كل هذا وأكثر قد دار برأسي ولعب الشيطان لعبته الماكرة وغمرني بالخوف والتوتر.

المهم.. تحدّد موعد العملية يوم الخميس السادس من أكتوبر السابعة صباحاً.

كانت العملية تتطلّب صياماً أكثر من 8 ساعات.. نمتُ مبكراً في الليلة التي تسبقها. واستيقظت مع الفجر. صليّت وقرأت وردي من القرآن والأذكار وتجهّزت للذهاب وأنا في توتر هائل تشوبه الطمأنينة والسكينة أو هي لا مبالاة لا أدري. ما يهم هو أنني حدّثتُ نفسي “زي ما تيجي”.

تبُعد المستشفى مسافة 20 كيلومتراً وتستغرق بالمواصلات العامة حوالي 40 دقيقة.

في سيارة المواصلات.. كانت الساعة السادسة صباحاً، وللطرافة صادف يوم العملية ذكرى حرب السادس من أكتوبر. والسائق يشغّل أغاني النصر بصوتٍ عالٍ! 😅

حرفياً لا مجازياً 😅

رغم سماعي للأغنية مراراً وتكراراً إلا أنني في مقاطع عدة كنت أشعر أنني أسمعها للمرة الأولى واعتقدت أن الكلام يخاطب شخصي:

الله أكبر بسم الله بسم الله.. أدينا عدينا بسم الله بسم الله

كان مشهداً على طرافته إلا أنه دبّ في نفسي بعض الحماس واندثر الخوف والتوتر إلا قليلاً.

وصلنا المستشفى، أنهينا الإجراءات المطلوبة وصعدت للطابق الثالث حيث غرف المرضى وانتظرت قرابة ساعة ونصف ثم حان وقت العملية. نادت عليّ الممرضة واصطحبتني إلى الطابق الثاني (العمليات).

دخلتُ غرفة العمليات في ذهول تام. شعرت أن في رأسي عدّ تنازلي تلقائي وتكّات ساعة تتزايد سرعتها بطريقة تثير التوتر كما في أفلام الرعب. لا أخفي عليكم سراً يا رفاق، والله من فرط التوتر فكّرتُ في أن أجهّز نفسي للركض والخروج بعيداً عن الغرفة وعن المستشفى بأكملها!

لكن الممرضة قطعت عليّ الطريق بأن طلبت مني خلع التيشيرت ولبس لباس العمليات ذو اللون الأزرق. ثم دخل طبيب التخدير ومعه مجموعة من الممرضات. طلبت مني إحداهن الاستلقاء على الطاولة السوداء.

حاولتُ أن أكسر الصمت المطبق على الغرفة وعلى نفسي وذهني في المقام الأول فطرحتُ سؤالاً لا لشخص محدد في الغرفة وإنما لمن يُجيب عنه أولاً:

هل سأصاب بالهلوسة بعد الإفاقة من تأثير المخدر؟

ففاجئني طبيب التخدير بغمزة ماكرة في محاولة منه لتهدئتي:

أيوة أيوة.. إنت خايف لتقول على اسم البنت اللي بتحبها!

ابتسمت وأخبرته أن لا توجد فتاة ولا يحزنون. قالت لي ممرضة كانت تحاول إبراز الشريان في يدي: خايف من إيه؟

سارعتُ بالقول: قولي مش خايف من إيه! دنا خايف من كل حاجة، التخدير، والعملية، والهلوسة. اعذروني دي أول مرة أدخل عمليات.

اقترب منّي طبيب التخدير ومعه ذلك القناع. وضعه على وجهي ثم دخلتُ في ظلام دامس لمدة 45 دقيقة تقريباً لا أذكر منها أي شيء على الإطلاق وكأنها ثقب أسود!

خرجتُ من هذا الثقب وأنا على نفس الطاولة وحولي الممرضات (لا أعلم على وجه الدقة هل كنّ ممرضات أم عاملات) يسرن بها في الممر وصولاً إلى المصعد للذهاب إلى الطابق العلوي، أثناء ذلك لم أكن واعياً ولم أكن العكس. يمكنك القول (بين البينين).

أشعر بثقل في عيني، ودوخة، وكلام بطيء مُمل كالسكران حينما يهذي بما لا يدري.

سمعتُ إحدى الممرضات تحادث زميلاتها: مش هنجيب فطار ولا إيه؟

تلقائياً وجدتني أُقحم نفسي في المحادثة: اعملوا حسابي معاكم.

سمعتُ صوت إحداهن وكأنه قادم من بلاد الهند رغم أنها بجانبي تماماً: عنينا.

ما أثار دهشتي وإعجابي وامتناني وشكري لله، أنني في المصعد وجدتني أردد بعض الأذكار التي أواظب عليها يومياً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. بنفس الصوت البطيء الممل الثقيل. والممرضة/العاملة تردد معي حيناً وتتوقف حيناً.

بل وأجمل من هذا، كان في الخلفية بعض آيات من القرآن أسمعها:

وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ۝

فبدأتُ أردد مع القارئ:

وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ۝ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى …

في هذه اللحظة تقريباً كنت قد استعدت جزءاً كبيراً من وعيي.

وصلتُ الغرفة، توافد عليّ الأهل والمرافقين للاطمئنان، حاولت التحدث لكنهم أمروني بلهجة صارمة: لا تتحدث.. استرح!

بعدما أفقتُ كلياً وعدت لوضعي الطبيعي، وصل للتو على الطاولة مريض آخر من غرفة العمليات وبينما ينقلنه الممرضات إلى سريره. وجّهت إحداهن كلامها إليّ مازحة: فطرت ولا لسه يا كابتن؟

أخذتُ ثانيتين تقريباً لأتذكّر ما حدث قبل إفاقتي فابتسمت وهززتُ رأسي نافياً، قالت: ولا إحنا والله لحد دلوقت.. اعمل إنت حسابنا بقى في فطارك. 😅

زارني الطبيب وسألني عن حالتي ثم أعطى بعض التعليمات لأهلي كان أبرزها: ممنوع يتكلم نهائياً لمدة أسبوع من دلوقتي!

لا بأس.. مجرد أسبوع بدون كلام. فترة قصيرة!

لم تكن كذلك.. فبداية من الساعات الأولى بعد وصولي إلى المنزل واجهت صعوبة في تطبيق هذه التعليمات. أن تصمت برغم قدرتك على الكلام. أن تصمت لا لأن الصمت حكمة، بل لأن عدم الصمت ببساطة قد يكلّفك فقدان صوتك!

هذا ناهيك عن من يأتي لزيارتك.. يجلس ثم يسألك عن أحوالك فتهمّ بالكلام، ثم تتذكر التعليمات المشددة، تومئ برأسك أو ترسم بيدك علامة (لايك). 👍

أيضاً من يأتي للزيارة، يجلس ثم يصمت ثم لا يجد شيئاً ليقوله فيهمّ بالانصراف.

أضف إلى ذلك صعوبة التواصل في حال أردتُ شيئاً يتضمن محادثة أهلي وإخوتي. آسف أنني لم أتعلّم لغة الإشارة!

مرّت الأيام ببطء شديد، أذكر أنني في إحدى المرّات بينما مَن حولي يتحدثون وسأل أحدهم سؤالاً فأجبته، نظروا لي وكأنني قتلتُ منهم أحداً. نظرة المتفاجئ المتوعّد! كيف أتتك الجرأة لتفعل مثل هذا الفعل الشنيع الذي لا يُغتفر؟ هل تحدّثت للتوّ؟!

أكتبُ هذه التدوينة في اليوم الخامس للعملية أي قبل انتهاء المدة المحددة من عدم الكلام بيومين. دعواتكم أن يمرّا سريعاً لأنني سئمت من الصمت والسكوت. وتأكدت أن الصمت ليس حكمة كما يقولون.. والحمد لله على نعمة الكلام.

كونوا بخير..

7 رأي حول “في غرفة العمليات للمرة الأولى في حياتي

  1. ألف لا بأس عليك عسى الله يكتب شفاءك التام قريباً وتعود تصدح بما تحب.
    من الجميل أن تكون مدونتك كذلك متنفس لصوتك المحجوب إلى حين. سردك رائع ودعواتي لك واصلة بإذن الله

    Liked by 1 person

  2. سلامات يا هشام، الحمدلله على عودتك بالسلامة وفات الكتير مش باقي إلا القليل، تجربة وتحدي متأكدة أنهم غيروا نظرتك للحياة تماماً، ولكن أنت قدها.
    ربنا يتمم شفاك على خير يارب

    Liked by 1 person

أضف تعليق