لن يعرف أحدٌ السبب وراء اكتئابه، مراجعة كتاب ظلام مرئي

مقدمة*

في عشرة فصول يروي لنا ويليام ستايرون تجربته مع الاكتئاب بداية من إصابته به مروراً بمحاولته الانتحار وصولاً في النهاية إلى التعافي منه بشكل نهائي.

*هذه المراجعة كُتبت في الأساس للمشاركة بها في جائزة تكوين للقارئ العربي لكن لم يحالفني الحظ في الوصول للمراكز الفائزة فرأيتُ أنه قد حان الوقت لنشرها هنا على مدونتي.

الميت الحي بين الناس

في أواخر أكتوبر من العام 1985 أدرك وليام ستايرون أنه قد وقع في فخ الاكتئاب على الرغم من أنه في الوقت نفسه كان يستعد لاستلام جائزة “تشينو ديل دوكا”. وقد عرّف الاكتئاب من وجهة نظره بأنه

“اضطراب في المزاج يصاحبه ألم بالغ الغموض وشديد المراوغة في طريقة ظهوره للذات ويكاد يستعصي على الوصف”.

فما كان منه إلا أن قام بالقراءة عن هذا المرض لكي يستطيع هزيمته حتى وصل في النهاية إلى حقيقة مفادها أن حالات الاكتئاب الشديدة لا تختفي بين عشية وضحاها. يصف شعوره مع الاكتئاب بالألم الحقيقي عدا أن الشعور بالاكتئاب “يتعذَّر وصفه” إذ لو كان الأمر كذلك لأصبح من السهل على من يعانون من الاكتئاب تصوير بعضاً من الجوانب الحقيقية لعذاباتهم ومعاناتهم مع الاكتئاب.

لن يعرف أحدٌ السبب وراء اكتئابه، مراجعة كتاب ظلام مرئي
تعريف الاكتئاب

ويذكر وليام أن أولى علامات الاكتئاب هي كراهية الذات وتجلَّى ذلك واضحاً حينما فقد شيك الجائزة ومع ذلك لم يشعر بالخسارة الفادحة بل على العكس شعر أنه لم يكن يستحق هذه الجائزة من الأساس.

عملية إهلاك النفس

ثم ينتقل ستايرون في الفصل الثاني ليحدثنا عن الأديب “ألبير كامو” ومدى تأثره بكتاباته وكذلك حين علم بخبر وفاته أو انتحاره كما كان يعتقد الجميع.

ويستكمل حديثه عن نفس الموضوع في الفصل الثالث ويذكر بشيء من التفصيل حالات انتحار ثلاثة من المشاهير وهم “آبي هوفمان” و “راندال جاريل” و “بريمو ليفي”. والشيء الذي لفت انتباهه في كل قضية انتحار هو إنكار المقرّبين من الشخص المنتحر ورفضهم التسليم بحقيقة الانتحار فيقول:

“ولكن العار الذي يصاحب الموت انتحاراً يمثل لدى بعض الناس وصمة عار يتعين محوها بأي ثمن”

الأمر الذي دفعه لكتابة مقالة قصيرة يوضح فيها كيف أن الناس لا تقدّر حجم المعاناة التي يعيشها مريض الاكتئاب وأنه ينبغي علينا ألا نُلقي اللوم على من قرر إنهاء مصيره بيده.

كذلك تطرّق إلى نقطة مهمة يعقبها تساؤل ألا وهو لماذا نجد أن حالات الانتحار تصيب أكثر أولئك الأشخاص المشاهير ذوي الميول الفنية والأدبية وذكر عدة أسماء لامعة من بينها (فينسنت فان جوخ، فيرجينيا وولف، سيلفيا بلاث، إرنست همنجواي…) والقائمة تطول، ويتساءل ما الشيء الخطير في حياتهم الذي دفعهم لإهلاك أنفسهم بهذا الشكل؟

لن يعرف أحدٌ السبب وراء اكتئابه

في الفصل الرابع يسجّل ستايرون اعتراضه على اختيار لفظ “الاكتئاب” لوصف هذا المرض ويعتقد أن هذا اللفظ لم ينجح في وصف ما يعاني منه مريض الاكتئاب في الحقيقة. ويرى أن الوصف الدقيق لهذا المرض هو “الملانخوليا” والتي – على حد قول المُترجم – يذكر أن ترجمتها العربية هي “سوداوية”.

لن يعرف أحدٌ السبب وراء اكتئابه، مراجعة كتاب ظلام مرئي
توصيف دقيق يوضح مدى معرفتنا بهذا المرض

يزعم ستايرون أن لا أحد سيتمكن من معرفة سبب اكتئابه وبدلاً من ذلك سيجد أن هناك عدة عوامل متداخلة هي ما دفعته في النهاية للوقوع أسيراً لهذا المرض. ففي حالته مثلاً اعتقد أن السبب الذي دفعه للاكتئاب كان امتناعه عن تعاطي الكحول حيث ربط توقيت اكتئابه مع توقيت امتناعه. إلا أنه نفى أن يكون ذلك هو السبب بل على العكس كان الكحول بمثابة درعه الواقي من القلق خلال سنوات عديدة من تعاطيه، ويرجّح أن الاكتئاب كان يحوم حوله من سنوات.

يبدأ ستايرون تدريجياً في وصف حالته أثناء اكتئابه ويعبّر بشكل دقيق عما كان يعتريه من قلق مباغت واضطرابات في النوم، وكيف أنه أصبح في عزلة رهيبة ومؤلمة على الرغم من تواجد زوجته “روز” والدعم الذي كانت تقدمه له. بالإضافة إلى فقدانه القدرة على ممارسة فعل الكتابة.

أيضاً يسجّل استغرابه الشديد كيف جعله الاكتئاب يكره بيته الريفي الذي ظل مكانه المحبب طيلة ثلاثين سنة. ومن ضمن الأعراض التي سجّلها خلال فترة اكتئابه هي خفوت صوته وحشرجته وكأنه صوت رجل بلغ التسعين من عمره.

الفقدان علامة من علامات الاكتئاب

في الفصل الخامس ينتقل ستايرون إلى الحديث عن ذهابه للطبيب النفسي والذي أقرّ لاحقاً بعدم فائدته وأن ذهابه للطبيب لم يكن أكثر من مجرد الحصول على بعض الأدوية التي ربما تخفف عنه ما يعانيه. وبالحديث عن الأدوية يشدّد ستايرون على أهمية العلاج الدوائي وقدرته على معالجة الاكتئاب وخاصة في مراحله الأولى مثل دواء “الليثيوم” إلا أن أياً من تلك الأدوية لم تجدي معه نفعاً حيث تأكّد أن حالته قد بلغت مرحلة تمكّن منها الاكتئاب بشكل كامل.

يعزو ستايرون مسببات الاكتئاب إلى فكرة الفقدان بجميع مظاهره، فقدان الأشخاص والأشياء والشيء الأخطر وهو فقدان تقدير الذات.

ويختتم هذا الفصل بالتعبير عن امتنانه العميق لزوجته “روز” التي امتلكت صبراً بلا حدود ووقفت بجانبه بل إنها في نظره كانت أكثر فائدة وحكمة من طبيبه النفسي.

نقطة حرجة

تتصاعد حدة الأحداث في الفصل السادس حيث يحكي ستايرون عن اللحظة التي قرر فيها إهلاك نفسه والإقدام على الانتحار بعد انصرافه من حفل عشاء في منزله وصعوده للطابق العلوي حيث توجد مفكرته التي ظل محتفظاً بها على مدى سنوات يدوّن فيها يومياته بشكل عشوائي والتي كان يعتقد أن اللحظة التي سيقرر فيها التخلّص من هذه المفكرة ستكون هي نفسها اللحظة التي يُنهي فيها حياته.

يحكي ستايرون عن إحساسه في تلك اللحظة وعن شعوره بأن هناك ثمة ذاتاً ثانية أو مراقب يشبه الشبح يراه وهو يحاول إنهاء حياته بينما هو يشاهد تلك الكارثة في صمت دون أن يحاول منعه من فعل ذلك. يكتشف أيضاً كم هي صعبة كتابة رسالة انتحار فيها شيء من الكرامة والبلاغة حتى انتهى به الحال إلى تمزيق كل ما كتبه والرحيل في صمت.

إلا أن شيئاً واحداً منعه من الإقدام فعلياً على الانتحار، هذا الشيء هو الذكريات الجميلة التي مرّت أمامه في تلك اللحظة، كيف له أن يتخلّى بسهولة عن كل هذه البهجة؟ كيف له أن يفقد كل هؤلاء المقربين منه؟ أدرك في هذه اللحظة أن خوفه من فقدان كل ذلك كان أكبر من قرار الانتحار.

يأتي الاكتئاب بشكل غامض ويتحقق الشفاء منه بشكل غامض

في الفصلين السابع والثامن بعد أن عزف عن الانتحار وأُدخل المستشفى يروي لنا بعضاً من الأحداث ويتطرق إلى أهمية المستشفى كملاذ آمن بالنسبة لمريض الاكتئاب على الرغم من السمعة السيئة التي اكتسبتها.

تحدّث عن العلاج الجماعي الذي تلقّاه داخل المستشفى ونبّه على أن بعض الأطباء يطبّقون هذا العلاج على نحو خاطئ يعتمد على إجبار المريض على التأسّي على حاله وذرف الدموع.

في المقابل أبدى إعجابه بأسلوب العلاج بالفن عن طريق الرسم حتى بدأت حالته تتحسّن تدريجياً.

وهكذا خرجنا، ومرة أخرى أبصرنا النجوم

في الفصلين الأخيرين وبعد أن تعافى من الاكتئاب وتسنّى له التفكير بشكل واضح في الأسباب الحقيقية التي أوقعته في براثن الاكتئاب وكادت أن تودي بحياته. هل فعلاً كان السبب امتناعه عن الكحول؟ أم بلوغه سن الستين؟ أم تدهور عمله في الكتابة؟ لاحظ في النهاية أن هناك سببين: أولهما هو حقيقة أن الكثير من كتبه كانت تتحدث بإفراط عن الاكتئاب والانتحار وأن التفكير السلبي الدائم في شيء ما قد يتفاقم ويصل إلى درجة من الخطورة تكاد أن تكلفك حياتك.

وثانيهما وهو وفاة والدته وهو في سن صغيرة وكذلك العامل الوراثي كان له دور كبير حيث أُصيب والده باكتئاب حاد ظل يعاني منه لسنوات طويلة.

كلمة أخيرة

هذا الكتاب بكل تأكيد لن أكتفي بقراءته مرة واحدة بل سأعتبره مرجعاً أساسياً أعود إليه في تلك اللحظات التي يداهمني فيها شبح الاكتئاب لأجد فيه بعض المواساة والتفاؤل.

إذا كنت قد وصلت إلى هنا فأحييك وأشكرك على سعة صدرك وقراءتك المراجعة حتى النهاية. 🙏

6 رأي حول “لن يعرف أحدٌ السبب وراء اكتئابه، مراجعة كتاب ظلام مرئي

أضف تعليق