هكذا يفعل بنا الوصف الممتاز. 6 أمثلة من روائع يوسف إدريس

مساء الخير..

شهيتي مفتوحة هذه الفترة للقراءة لدرجة أني أقرأ في 10 كتب مختلفة ما بين روايات، وكتب عن الكتابة، وكتب عن الإنتاجية.. ومجموعات قصصية. كم أعشق المجموعات القصصية وكم أعشق فن القصة القصيرة. تلك القصة التي لا تتعدّى العشر صفحات لكنها تتضمن في حروفها وبين ثناياها الكثير.

ولا يمكن الحديث عن القصة القصيرة دون أن نأتي على ذكر عرّابها: يوسف إدريس.. ذلك الكاتب والأديب الذي أبهرني بعذوبة أسلوبه وجمال وصفه للشخصيات والأماكن والأشياء. حدث هذا حينما قررتُ قراءة مجموعته القصصية “حادثة شرف” وهي مجموعة قصصية تضم 7 قصص ممتعة، ومتعتها ليست في مواضيعها وإنما في أسلوب الوصف والسرد. هذا أول عهدي بأعمال يوسف إدريس.

طبعاً لم أحسب تلك القصة التي كانت مقررة علينا في الثانوية في منهج اللغة العربية، تلك القصة التي كانت بعنوان “نظرة” أعتقد. لطالما كرهناها وكرهنا أسئلتها! أتعجب كيف ينجح التعليم في الفشل بجدارة في تقريبنا من الأدب والكتّاب في بلدنا بدلاً من أن يحبّبنا فيهم وفي أعمالهم؟!

لا أصدّق أن الذي كتب قصة نظرة هو نفسه الذي أتغنّى به وبقصصه الآن! فتلك القصة لم يكن همّنا كطلاب وقتها سوى أن نستخرج تعبيرات الجمال والبلاغة من النَصّ! وبالطبع كان استخراجها صعباً علينا فكنّا نلجأ إلى الحفظ (والبصمجة) دون اكتراث لموضوع القصة وما فيها من جمال حقيقي خفي علينا وقتها لأن هذه هي طريقة التعليم في بلادنا العزيزة.

المهم.. أكتب هذه التدوينة في حب يوسف إدريس وأسلوبه الذي سحرني لدرجة أنني عشتُ مع كل قصة ودخلت في أحداثها وكأنها تُعرض أمامي على شاشة كبيرة. ولأجل ذلك قررتُ الاستشهاد بأمثلة عملية من القصص السبع نفسها وسأحاول الحديث عن كل صورة وكل فقرة وما فيها من جمال وعذوبة في الوصف والسرد.

في القصة الأولى بعنوان “محطة” وتدور أحداثها داخل أتوبيس النقل العام:

انظر إلى هذه الفقرة التي يصف فيها الكاتب الرجل الجالس بجواره ويصفه بأنه (وكان قد قرأ من جريدتي أضعاف ما قرأتُه منها).

فقط جملة واحدة يا صديقي تستطيع أنت كقارئ من خلالها تخيّل شكل هذا الرجل المتطفل الذي يحشر أنفه في شؤون الآخرين. بل أنك قد تكون بعد هذه الجملة حددت ملامح هذا الرجل وشخصيته ووجهه بل وحتى ربما اخترت له اسماً يليق به، وربما استرجعت في ذاكرتك واحداً من هؤلاء جلس بجوارك في مرة ما! كل هذا نجح فيه الكاتب ببراعة بواسطة جملة قصيرة لا تتعدى العشر كلمات. ولهذا أحبّ القصة القصيرة وأحب الوصف البديع.

وهاك قصة أخرى بديعة بعنوان “شيخوخة بدون جنون”:

لاحظ كيف يصف عم محمد الرجل الطاعن في السن الذي يعمل صبي حانوتي، كيف يصف تلك الدمعة التي لاحظها في عينيه. كان بوسعه أن يكتب بضعة كلمات لا غير :لاحظتُ دمعة تكاد تسقط من عينيه. وسيصلك المعنى. لكن هنا تتجلّى موهبة الكاتب المبدع، لا يقتصر على السرد الجاف بل يحاول قدر الإمكان أن يوصل إليك الشعور بشكل كامل وأن تحس به وكأنما يحدث أمامك مباشرة.

ولنترك عم محمد ونذهب إلى القصة التي أبدع فيها الكاتب واستغرق في الحزن، قصة بعنوان “اليد الكبيرة” ولشدّة روعتها سنتوقف عند ثلاثة أمثلة للتدليل على روعة الوصف الذي يمتلكه يوسف إدريس.

تلك القصة تحكي عن الأب ووجوده في حياة الابن.

في مستهلّ هذه القصة شاهد كيف يريد يوسف إدريس إخبارك أن قريته هادئة وساكنة ليس فيها أحداث تُذكر. لم يسلك الطريق السهل ليخبرك بذلك كما فعلتُ أنا قبل قليل، بل رسم لك صورة حيّة يمكنك تخيّلها أمامك حتى تتأكّد فعلاً أن هذه القرية هادئة مملة مسالمة.

ثم يأتي الدور الأكبر، كيف يصف لك الكاتب والده؟ أيصفه بطريقة تقليدية لا تنجح في إبهارك في تخيّل الأب بل تقتصر على اختيار أي نموذج أب يطرأ على ذهنك؟

لا.. انظر كيف وصفه لك بأدق التفاصيل:

  • كيف أنه لمّا كان طفلاً لم يكن يستطيع أن يطول إلا ساق أبيه، لكنه الآن كبر حتى أصبح في استطاعته أن يلف يده حول وسَطِه. هذا دلالة على الأب الذي كبُر في السن وأصبح هشّاً مجرد هيكل عظمي!
  • ثم بعد ذلك بدأ يصف لك وجهه وتجاعيده. صدقاً أنا في هذه اللحظة تمثّلت أمامي صورة جدّي الأكبر الذي مات في طفولتي كأنّي أراه رأي العين. هذه براعة الكاتب.. وجمال الكتابة.

ثم هذا المشهد الأخير في نهاية القصة الحزينة يعبّر لك عن حزنه هو وإخوته بأن أبيهم قد مات.. (والمصباح يكاد نوره يختنق، وغازه يفرغ.. وظلالنا تبهت على الجدران وتتداعى). لهذه الدرجة؟ يصف لك كيف يعبث الضوء الخافت الصادر من المصباح بظلاله هو وأخيه على جدران الغرفة؟

ومثال أخير حتى لا أطيل عليكم. من قصة بعنوان “طبلية من السماء” وهي قصة على روعتها إلا أني أرى فيها بعض التجاوز وسوء الأدب في الحديث مع الله على لسان البطل في القصة.

انظر كيف يصف لك الكاتب يوم الجمعة وخاصة بعد الصلاة مباشرة.. وصف دقيق جداً ومغرق في الواقعية، بالفعل هذا هو ما يحدث في الحقيقة وبطريقة لا ننتبه لها لكنها تعلق في أذهاننا وتستقر. أزعم أنني بعد قراءة هذا الوصف شممتُ فعلاً رائحة الأرض التي غُمرت بماء الغسيل المختلط بالرغوة!

هكذا يفعل بنا الوصف الممتاز كقرّاء، وهكذا يجب أن يكون الكاتب والأديب.. أن يحاول قدر المستطاع في وصف الأشياء والأماكن والأشخاص بأسلوب واقعي يساعد القارئ على تخيّل القصة أو الرواية في مشاهد حيّة ماثلة أمامه. ذلك السهل الممتنع الساحر الذي لا يصله أي كاتب بل يتميّز به بعضهم عن بعض.

أمل أن تدوينة غريبة مثل هذه أعجبتكم أو على الأقل أوصلت لكم إحساسي وانبهاري بملكة الوصف التي يمتلكها الكاتب والأديب الراحل يوسف إدريس.

دمتم بخير.

4 رأي حول “هكذا يفعل بنا الوصف الممتاز. 6 أمثلة من روائع يوسف إدريس

  1. الفرق بين المدرسة والقراءة الذاتية أن المدرسة تختار لنا في حين أن القراءة الذاتية هي اختيار ذاتي، الفرق الآخر أن المدرسة تعلم قراءة القصص بأسلوب قديم أظن أنه أسلوب جاء من عقود مضت ولم يتغير، بطيء ويقسم القصة إلى قطع صغيرة ويجعل كل قطعة منها مملة ومتعبة، في حين أن الأسلوب الحديث للتعليم ستجده في يوتيوب مثلاً، من يراجعون الكتب تجدهم يعطونك الملخص والفائدة في عشرين دقيقة ودرس المدرسة يحتاج 50 إلى 60 دقيقة لكي يجعل قصة قصيرة مثيرة للضجر 🙂

    Liked by 1 person

    1. أتفق معك، هذا تماماً ما كان يحدث معنا في المدرسة، ولذلك لم نشعر بجوهر القصة ولا بمعناها ولا حتى أستطيع أن أتذكر عم كانت تحكي القصة سوى عن طفلة صغيرة تحمل صينية الخبز فوق رأسها، هذا كل ما أتذكره.

      إعجاب

أضف تعليق